-->

مدخل الاستجابة في المنهاج الجديد للتربية الإسلامية بين المفهوم القرآني والتوظيف البيداغوجي

    ذ. حميد حقي
    خريج المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين لجهة الشرق
    أستاذ التربية الإسلامية بالسلك الثانوي – مديرية أزيلال
    باحث في الفكر الإسلامي وحوار الأديان والحضارات
    عضو مركز دراسات المعرفة والحضارة

    إن من المسَلمات الوجودية أن الإنسان ما خُلق إلا لعبادة الله عز وجل، ولا يمكنه أن يحقق هذه الغاية إلا بامتثال أمره، واجتناب نهيه. ولم يبعث الأنبياء والرسل إلا ليبلغوا عن الله هذه الرسالة، ويبينوا للناس ما يفعلون وما يتقون. وقد بعث الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بشريعة اليسر والتخفيف؛ يرسم الطريق للعباد، ويبين لهم العبادة من العادة، والحلال من الحرام، والمصلحة من المضرة؛ فكان بذلك أول معلم يعلم الناس الخير، ويدعوهم إليه.
    وقد حمل هذه الرسالة بعد وفاته – صلى الله عليه وسلم - الصحابة والتابعون، ومن تبعهم من الأئمة المجتهدين، والعلماء المربين، الذين لم يذخروا جهدا في سبيل الدعوة إلى إفراد الله بالعبودية، وبيان ما شرعه من عبادات ومعاملات.
    وهذه هي الوظيفة التي أنيطت فيما بعد بالمدارس التعليمية، عندما أصبحت الحاجة ماسة إلى من يربي أبناء المسلمين على التوحيد، ويعلمهم أحكام الإسلام؛ وهذا ما سهرت الجهات الوصية على تقنينه منذ تأسيس هذه المدارس بالمغرب. وقد اقتضى ذلك تطوير المناهج والبرامج، كلما استجدت مستجدات، وحلت بالقطاع نوازل ومحدثات.
    وفي هذا السياق - وفي ظل التعديل التي عرفه منهاج التربية الإسلامية سنة 2016م – تأتي هذه الورقة البحثية لتقدم دراسة تحليلية نقدية لمدخل من المداخل التي بني عليها المنهاج، ويتعلق الأمر بمدخل الاستجابة. مستهدفة بذلك تحقيق ما يلي:
    ·       تحقيق القول في الدلالة اللغوية والاصطلاحية لمفهوم الاستجابة
    ·       استخلاص المفهوم الشرعي للاستجابة ومقارنته بالمفهوم الوارد في المنهاج
    ·       إبراز مدى تلاؤم مفهوم الاستجابة في المنهاج مع الدروس المقررة
    ·       التأكيد على إمكانية الاستفادة من النتائج المتوصل إليها في التربية والتعليم
    وذلك ما سأناقشه بشيء من الإيجاز والتركيز من خلال المباحث التالية:
    1.      الدلالة اللغوية والاصطلاحية لمفهوم الاستجابة
    2.      المفهوم الشرعي للاستجابة
    3.      مناقشة المفهوم الوارد في المنهاج على ضوء المفهوم القرآني المستخلص
    4.      إمكانية استثمار النتائج المتوصل إليها في العملية التعليمية التعلمية
    أولا: الدلالة اللغوية والاصطلاحية لمفهوم الاستجابة
    ذكر صاحب اللسان في مادة (ج.و.ب) أن من أسماء الله المجيب، وهو الذي يقابل الدعاء والسؤال بالعطاء والقبول، وهو اسم فاعل من أجاب يجيب[...] والإجابة والاستجابة بمعنى، يقال: استجاب الله دعاءه، والاسم الجواب والجابة والمجوبة. واستدل بقوله تعالى: ((فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي؛ أي فليجيبوني))[1]. وأورد قول الفراء: إنها التلبية، والمصدر الإجابة، والاسم الجابة، بمنزلة الطاعة والطاقة. والإجابة: رجع الكلام، تقول: أجابه عن سؤاله، وقد أجابه إجابة وإجابا وجوابا وجابة واستجوبه واستجابه واستجاب له. كما أورد قول كعب ابن سعد الغنوي يرثي أخاه أبا المغوار:
    وداع دعا يا من يجيب إلى الندى        ...        فلم يستجبه عند ذاك مجيب[2]
    وجاء في تاج العروس "والإجابة: رجع الكلام. تقول: أجاب عن سؤاله. وفي أمثال العرب (أساء سمعا فأساء إجابة) [...] والإجابة والاستجابة بمعنى، يقال: استجاب الله دعاءه..."[3]. "والمجاوبة والتجاوب: التحاور"[4]. وكل ما في القرآن من الفعل استجاب ومضارعه وأمره فهو بمعنى إيتاء السؤل إمدادًا بالمطلوب، أو قبولًا بما يدعو الله إليه[5].
    وتأتي الاستجابة في الاصطلاح بعدة معان، أذكر منها:
    ·       الاستجابة بمعنى الإجابة: وهذا ما ذهب إليه الراغب الأصفهاني في المفردات: "الاستجابة هي الإجابة، وحقيقتها هي التحري للجواب والتهيؤ له، لكن عبّر به عن الإجابة لقلة انفكاكها منها"[6]. غير أنه في تفسيره إشارة إلى التمييز بينهما، وذلك في قوله: "الاستجابة في الأصل معناها مخالف للإجابة وإن كان قد يجري مجراها"[7].
    ·       الاستجابة بمعنى القبول: والفرق بين المعنيين أن الجواب قد يكون قبولا، وقد لا يكون قبولا.
    ·       الاستجابة بمعنى "قبول الدعاء وإيتاء السؤْل"[8].
    ·       الاستجابة بمعنى تلبية نداء الله ونداء رسوله.
    وهذه المعاني جميعها تدور حول معنى واحد؛ وهو التلبية الفورية لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، بكل تسليم وخضوع وانقياد، دون التراخي في تنفيذ الأمر وتطبيقه.
    ثانيا: المفهوم الشرعي القرآني للاستجابة
    عند استقراء آيات القرآن الكريم نجد الاستجابة بمختلف صيغها ومشتقاتها[9] وردت في حوالي 41 موضعا؛ 31 منها في السور المكية، و 11 في السور المدنية. بعضها بصيغة (الإجابة) وبعضها الآخر بصيغة (الاستجابة). وللمفسرين أقوال وآراء حول اللفظتين؛ فمنهم من ميز بينهما، ومنهم من اعتبرهما لفظتان لمعنى واحد.
    فالطاهر بن عاشور يرى أن "استجاب وأجاب بمعنى واحد. وأصل أجاب واستجاب أنه الإقبال على المنادي بالقدوم، أو قول يدل على الاستعداد للحضور نحو (لبيك)، ثم أطلق مجازا مشهورا على تحقيق ما يطلبه الطالب، لأنه لما كان بتحقيقه يقطع مسألته فكأنه أجاب نداءه"[10]. وهذا ما ذهب إليه جمهور أئمة اللغة. وممن شذ عن ذلك الفراء، حيث يرى: أن استجاب أخص من أجاب لأن استجاب يقال لمن قبل ما دعي إليه، وأجاب أعم، فيقال لمن أجاب بالقبول وبالرد. وفي نظري أن هذه الإشارة من الفراء إشارة مهمة، ولها سندها الشرعي في القرآن الكريم وفي السنة النبوية؛ ذلك أن الاستجابة لا تحصل بكلمة أو فعل، وإنما تسلك بالعبد مسلكا تدريجيا يقطع فيه مسافة في طريقه إلى الله.
    وهذا ما يوضحه صاحب المنار بقوله: "ومن دقق النظر في استعمال الصيغتين في القرآن الحكيم يظهر له أن أفعال الإجابة كلها قد ذكرت في المواضع المفيدة لحصول السؤال كله بالفعل حقيقة أو ادعاء دفعة واحدة، ومنه الإجابة بالقول كقولك: نعم، وبلى، ولبيك، ولك ذلك، وأن الاستجابة قد ذكرت في المواضع المفيدة لحصول السؤال بالقوة أو التهيؤ والاستعداد له، ومنه قوله تعالى: ((الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح)) فهو قد نزل في تهيؤ المؤمنين للقتال في حمراء الأسد بعد أحد، أو بالفعل التدريجي، كاستجابة دعوة الدين التي تبدأ بالقبول والشهادتين، ثم تكون سائر الأعمال بالتدريج وشواهده كثيرة"[11]. ويضيف قائلا: "والاستجابة من الله القادر على كل شيء إنما يعبر بها في الأمور التي تقع في المستقبل، ويكون الشأن فيها أن تقع بالتدريج كاستجابة الدعاء بالوقاية من النار، وبالمغفرة وتكفير السيئات وإيتاء ما وعد به المؤمنين في الآخرة"[12].
    1.     صور ومعاني الاستجابة في القرآن
    تأتي الاستجابة في القرآن على ثلاثة صور؛ كل صورة منها تنضوي تحتها مجموعة من المعاني:
    الصورة الأولى: استجابة العباد لله ورسوله. ومن شواهدها قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ))[13]. ومن معاني الاستجابة في هذه الصورة الإيمان، الإجابة، الطاعة، الاتباع، الامتثال، الانقياد، الاستعداد.
    الصورة الثانية: استجابة الله للعباد. ومثالها قوله تعالى: ((فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى))[14]. ومن معانيها في هذه الصورة: إجابة الدعاء، قبول الطلب، الوعد بالإغاثة، تكفير الذنوب.
                   وهناك آيات اختلف فيها المفسرون هل المقصود بالاستجابة فيها الصورة الأولى أم الثانية؟ من ذلك مثلا قوله تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ويستجيب الذين آمنوا))[15]. فقد فسرها صاحب التفسير القرآني للقرآن بقوله: "وهو سبحانه، يستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات"[16]، وقال إن معنى الاستجابة في الآية القبول. ويقول الطاهر بن عاشور: "ويجوز أن يكون الذين آمنوا فعل يستجيب؛ أي يستجيبون لله فيطيعونه"[17].
    الصورة الثالثة: استجابة الإنسان للشيطان، كما في الآية: ((وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي))[18].
    2.     سياقات الاستجابة في القرآن الكريم
    ·       سياق ترسيخ عقيدة التوحيد
    فقد جاءت الآيات داعية إلى الإيمان بالله والاستعانة به، دون سواه من المخلوقات التي لا تنفع ولا تضر. ((وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ))[19]، كما جاءت لتكشف عن حال المشركين الذين يستعينون بغير الله، فتخاطبهم: ((إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ))[20]، ويزداد الأمر تأكيدا عندما يقول الله: ((وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ))[21].
    ·       سياق الدعوة إلى عبادة الله وطاعة رسوله
    ذلك أن القرآن الكريم كله يؤكد على أن العبادة هي غاية الخلق، وأنها العنصر الوحيد الذي من شأنه أن يجعل الإنسان يحيى الحياة الحقيقية في هذه الدنيا، قال تعالى:((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ))[22].
    ·       سياق الدعوة إلى الاستعداد لليوم الآخر
    إن القرآن الكريم يؤكد في كثير من آياته أن الإنسان مطالب بأن يبقى دائم الاتصال بالله؛ لأنه لا يدري متى يباغته الموت، والاستجابة كما مر معنا تشير إلى معنى الاستعداد والتهيؤ الدائم، قال تعالى: ((اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ))[23]. بمعنى: استعدوا لليوم الآخر بالطاعة والعبادة.
    ·       سياق بيان جزاء المستجيبين لله ورسوله
    وذلك بهدف تحفيز المؤمن وتشجعيه على الإقبال على العبادة والتفاني فيها. فهذه آيات الله تبين أن الله لن يضيع أجر المستجيب له ((يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ))[24]، وهذه آيات أخرى توضح ما أعده الله للمستجيبين، وما توعد به المعرضين ((لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ))[25].
    ·       سياق ذكر نماذج من المستجيبين المستجاب لهم (الأنبياء)
    القرآن الكريم حافل بأخبار المستجيبين الذين خلد الله ذكرهم ليكونوا نماذج للاقتداء والتأسي، ولنذكر منهم مثلا:
    ü    سيدنا يوسف عليه السلام: ((قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ))[26].
    ü    سيدنا نوح عليه السلام: ((وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ))[27].
    ü    سيدنا أيوب عليه السلام: ((وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ))[28].
    ü    سيدنا يونس عليه السلام: ((وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ))[29].
    ·       سياق بيان بعض موانع الاستجابة لله
    وهنا يذكر القرآن أن ما يمنع المرء من أن يستجيب لله ورسوله أحد أمور ثلاث: أولها: اتباع الهوى: ((فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءكم))[30]. وثانيها: اتباع خطوات الشيطان والاستجابة له: ((وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي))[31]. وثالثها: الإقبال على أصنام لا تستجيب لداعيها ((ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون))[32].
    3.     المفهوم القرآني المستخلص
    من خلال تأمل الصور الثلاث التي تأخذها قيمة الاستجابة في القرآن، وما تنضوي عليه من المعاني والدلالات، وبالنظر كذلك إلى السياقات القرآنية التي وردت فيها الاستجابة يمكن استخلاص مفهوم قرآني تربوي لها، باعتبارها مدخلا أساسيا لبناء منهاج جديد للتربية الإسلامية. وهو أن نقول: الاستجابة قيمة عليا تربي الإنسان على الامتثال لله عز وجل بالإيمان الجازم، وأداء العبادات والمعاملات على أحسن وجه. وهي قيمة تجعل العبد يقبل دعوة ربه ويقبل عليها بالقول أو الفعل التدريجي، حتى يحقق العبودية التامة لله.
    ويمكن تحليل هذا المفهوم وتحديد عناصره في الآتي:
    ·       الاستجابة قيمة قرآنية عليا، تندرج تحتها مجموعة من القيم الجزئية التي تترسخ في العبد بمجرد قبوله دعوة الله وإقباله عليها.
    ·       تشمل الاستجابة في القرآن الإيمان بالله، وكل ما يقتضيه ذلك من الإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر. كما تشمل طاعته بأداء العبادات والمعاملات على النحو الذي يرضيه.
    ·       طاعة النبي صلى الله عليه وسلم من طاعة الله، فهي متضمنة فيها.
    ·       الاستجابة لله في شقها الإيماني استجابة جازمة، بينما في الشق العملي تأخذ مسلك التدرج في تحقيق غاية التعبد.
    ثالثا: مناقشة المفهوم الوارد في المنهاج على ضوء المفهوم القرآني المستخلص
    1.      مقارنة بين المفهومين
    جاء في المنهاج الجديد للتربية الإسلامية أن الاستجابة يقصد بها "تطهير الجسم والقلب لتأهيل المؤمن لعبادة الله وشكره بالذكر والدعاء، بهدف تزكية الروح لتحقيق الفلاح في الدنيا والآخرة. لقوله تعالى: ((ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)) [الأنفال،24]"[33].
    بناء على المفهوم القرآن يمكن تسجيل الملاحظات التالية على المفهوم الوارد في المنهاج:
    الملاحظة الأولى: تشابه كبير في المنهاج بين صياغة مفهوم الاستجابة ومفهوم التزكية؛ حيث عرفت التزكية بأنها "تزكية النفس وتطهيرها بتوحيد الله تعالى وتعظيمه ومحبته، وذلك بدوام مناجاته من خلال تلاوة القرآن، والاتصال به وتعرف قدرة الله وعظمته قصد ترسيخ قيمة التواضع لدى المتعلم"[34] وعرفت الاستجابة بأنها "تطهير الجسم والقلب لتأهيل المؤمن لعبادة الله وشكره ...".
    الملاحظة الثانية: الصياغة التي صيغ بها التعريف فيها اضطراب إن لم نقل تناقض؛ فما إن تعرف الاستجابة بأنها تطير الجسم والقلب بهدف تأهيل المؤمن لعبادة الله حتى ينقض ذلك بالقول بأنها وسيلة لتزكية الروح. فلا يدري القارئ للتعريف أهي وسيلة روحية لتحقيق العبادة؟ أم هي وسيلة تعبدية لتحقيق التزكية؟
    الملاحظة الثالثة: اقتصار التعريف على الإشارة إلى العبادات دون المعاملات. وبالرجوع إلى البرنامج الدراسي نجد دروس المدخل تشملهما معا. وغير بعيد أن يكون واضعو المنهاج أدرجوا المعاملات في العبادات، فاعتبروا ذلك كله عبادة لله. ويعضد هذا ما جاء في كتاب منار التربية الإسلامية للمستوى الثالث إعدادي من أن "العبادة بالمفهوم الواسع منهج كامل يشمل حياة الإنسان وأطوارها وكل شؤون دنياه، وكل اهتماماته"[35].
    الملاحظة الرابعة: الآية التي تم الاستدلال بها جاءت عامة في الاستجابة لله وللرسول بكل ما يمكن أن يحقق مقصد الإحياء المشار إليه في قوله تعالى: ((إذا دعاكم لما يحييكم)). وقد نقل الإمام فخر الدين الرازي في تفسيرها أربعة أقوال[36]: الأول: الإيمان[37]، والثاني: القرآن[38]، والثالث: الجهاد[39]، والرابع: كل حق وصواب. وهي نفس الأقوال التي ذكرها ابن كثير[40]. ورجح صاحب المنار أن يكون المراد بالحياة في الآية "حياة العلم بالله تعالى وسننه في خلقه، وأحكام شرعه والحكمة والفضيلة والأعمال الصالحة التي تكمل بها الفطرة الإنسانية في الدنيا، وتستعد للحياة الأبدية في الآخرة"[41].
    ثانيا: إبراز مدى تناسب الدروس المقررة في الثانوي الإعدادي والتأهيلي مع المفهوم
    من خلال تتبع الدروس المقررة في مدخل الاستجابة في السلك الثانوي الإعدادي نجد أنها لا تخرج عن دائرة العبادات، خاصة منها الصلاة والزكاة. ومن ثم فلا إشكال بين المفهوم المسطر والبرنامج المقرر.
    أما فيما يتعلق بدروس الثانوي التأهيلي فيمكن تصنيفها إلى أربع دوائر أساسية:
    ·       دائرة العبادات الأساسية؛ من صلاة وزكاة وصوم وحج (في الأسدس الأول من الجذع المشترك).
    ·       دائرة المعاملات المالية (في الأسدس الثاني من الجذع المشترك).
    ·       دائرة أحكام الأسرة، بدءا بالزواج فالطلاق، ثم رعاية الأطفال، وأهمية الأسرة في بناء المجتمع (في السنة الأولى بكالوريا).
    ·       دائرة الضوابط المتعلقة بالحكم الشرعي؛ ومن ذلك معرفة الخصائص العامة للإسلام، ومقاصد الشريعة الإسلامية، ثم معرفة ضوابط التجديد والاجتهاد في فهم النص الشرعي (في السنة الثانية بكالوريا).
    وهنا يلاحظ أن دروس الاستجابة في هذا السلك شملت بالإضافة إلى العبادات أمورا أخرى، بعضها يندرج أساسا تحت مدخل الاستجابة بمعناها القرآني الواسع، وهو جانب المعاملات، وجانب الأسرة، وبعضها يمكن أن يكون في إدراجه تكلف؛ وهذا شأن دروس الضوابط المتعلقة بالحكم الشرعي.
    رابعا: إمكانية استثمار النتائج المتوصل إليها في العملية التعليمية التعلمية
    في اعتقادي أن ما تم التوصل إليه من النتائج الأولية لقيمة الاستجابة يمكن استثمار جزء كبير منه في تخطيط التعلمات وتدبيرها وتقويمها، ومن الجوانب التي أرى ضرورة الاستفادة منها ما يلي:
    o      إذا كان التدريس بالكفايات لا يعني سوى التعلم مدى الحياة، فإن من دلالات الاستجابة في القرآن التعبد لله مدى الحياة؛ وهي بهذا المعنى تجعل المتعلم يدرك أنه مطالب بدوام الاتصال بالخالق سبحانه، وهذه كفاية ينبغي تحقيقها في كل متعلم.
    o      ترسيخ مجموعة من قيم الاستجابة في نفوس المتعلمين؛ فهي كما تقدم قيمة قرآنية عليا تتفرع عنها منظومة من القيم الإيجابية التي تحتاجها المدرسة المغربية؛ من ذلك قيمة الإخلاص، المحبة، التواضع، وقيمة الصبر.
    o      يمكن للمدرس وهو يدرس دروس الاستجابة أن يرسخ في نفوس متعلميه قيمة التوحيد التي يسعى إلى تحقيقها من خلال مدخل التزكية؛ أولا: لأن الاستجابة لله تشمل الإيمان به، وثانيا: لأن هذا الذي نتقرب إليه بالصلاة والزكاة والصوم والحج ينبغي أن نوحده قبل أي عبادة.
    o      تربية المتعلمين على مبدأ التدرج في بناء التعلمات، من خلال التدرج معهم في تدريس مفردات البرنامج الدراسي.
    o      التأكيد على وظيفية التعلمات؛ حيث يترسخ لدى المتعلم أن ما يتعلمه من الأحكام الشرعية ينبغي أن يوظفه عمليا في أداء العبادات.
    o      إبراز التكامل والترابط القائم بين المداخل الخمسة، حتى يتبين للمتعلم بأنها وحدة متكاملة، كل مدخل منها يخدم جانبا من الجوانب، ولا يستغني عن بقية المداخل.
    o      جعل المتعلم يدرك خصوصية المادة عن باقي المواد؛ إذ تجعله دائم الاتصال بخالقه سبحانه.
    o      تنمية قدرات الإدماج والتوظيف عند المتعلمين، عن طريق أداء بعض العبادات عمليا في القسم، مثل الوضوء والصلاة.
    o      تدريب المتعلم على مهارة الإتقان، بالتأكيد على أن العبد يثاب على عبادته بقدر إتقانه لها


    لائحة المصادر والمراجع:
    1.    القرآن الكريم
    2.    منهاج التربية الإسلامية بسلكي التعليم الثانوي الإعدادي والتأهيلي العمومي والخصوصي، وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني، مديرية المناهج، يونيو 2016.
    3.    محمد حسن حسن جبل، المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم، مكتبة الآداب – القاهرة، الطبعة الأولى: 2010م
    4.    جمال الدين ابن منظور (ت: 711هـ)، لسان العرب، نشر دار صادر – بيروت، الطبعة الثالثة: 1414هـ
    5.    الزَّبيدي (ت: 1205هـ)، تاج العروس من جواهر القاموس، نشر دار الهداية
    6.    زين الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الحنفي الرازي (ت: 666هـ)، مختار الصحاح، تحقيق يوسف الشيخ محمد، نشر المكتبة العصرية - الدار النموذجية، بيروت، الطبعة الخامسة، 1420هـ/ 1999م
    7.    أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانى (ت: 502هـ)، المفردات في غريب القرآن، تحقيق صفوان عدنان الداودي، نشر دار القلم، الدار الشامية - دمشق بيروت، الطبعة الأولى - 1412ه
    8.    الراغب الأصفهاني، تفسير الراغب الأصفهاني (المقدمة وتفسير الفاتحة والبقرة)
    9.    تحقيق ودراسة الدكتور محمد عبد العزيز بسيوني، نشر كلية الآداب - جامعة طنطا، الطبعة الأولى: 1420 هـ - 1999م (نقلا عن المكتبة الشاملة).
    10.  محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور (ت: 1393هـ)، التحرير والتنوير، نشر الدار التونسية للنشر – تونس، سنة: 1984 هـ
    11.   محمد رشيد بن علي رضا (ت: 1354هـ)، تفسير المنار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة 1990م
    12.  عبد الكريم يونس الخطيب (ت: بعد 1390هـ)، التفسير القرآني للقرآن، نشر دار الفكر العربي – القاهرة
    13.     أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (ت: 606هـ)، مفاتيح الغيب، نشر دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة الثالثة - 1420هـ
    14.    أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري (ت: 774هـ)، تفسير القرآن العظيم، سامي بن محمد سلامة، نشر دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية: 1420هـ - 1999م


    [1] - سورة البقرة، الآية:186
    [2] - جمال الدين ابن منظور (ت: 711هـ)، لسان العرب، نشر دار صادر – بيروت، الطبعة الثالثة: 1414 هـ، ج:1، ص:283
    [3] - الزَّبيدي (ت: 1205هـ)، تاج العروس من جواهر القاموس، نشر دار الهداية، ج:2، ص: 203-206
    [4] - زين الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الحنفي الرازي (ت: 666هـ)، مختار الصحاح، تحقيق يوسف الشيخ محمد، نشر المكتبة العصرية - الدار النموذجية، بيروت، الطبعة الخامسة، 1420هـ / 1999م، ص:63
    [5] - محمد حسن حسن جبل، المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم، مكتبة الآداب – القاهرة، الطبعة الأولى: 2010م، ج:1، ص:270
    [6] - أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانى (ت: 502هـ)، المفردات في غريب القرآن، تحقيق صفوان عدنان الداودي، نشر دار القلم، الدار الشامية - دمشق بيروت، الطبعة الأولى - 1412 هـ، ص:210
    [7] - الراغب الأصفهاني، تفسير الراغب الأصفهاني (المقدمة وتفسير الفاتحة والبقرة)، تحقيق ودراسة الدكتور محمد عبد العزيز بسيوني، نشر كلية الآداب - جامعة طنطا، الطبعة الأولى: 1420 هـ - 1999 م، ص:103 (نقلا عن المكتبة الشاملة).
    [8] - محمد حسن حسن جبل، المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم، مرجع سابق، ج:1، ص:269
    [9] - من الصيغ التي وردت بها (أجيب، يجب، يجيب، نجب، أجبتم، أجيبوا، أجيبت، جواب، مجيب، استجاب، استجب، يستجيب، استجابوا، استجبنا، استجبتم، يستجيبون، يستجيبوا، استجيبوا...)
    [10] - محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور (ت: 1393هـ)، التحرير والتنوير، نشر الدار التونسية للنشر – تونس، سنة: 1984 هـ، ج:2، ص:180
    [11] - محمد رشيد بن علي رضا (ت: 1354هـ)، تفسير المنار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة 1990 م، ج:7، ص:320
    [12] - المصدر نفسه، ج:7، ص:320
    [13] - سورة الأنفال، الآية: 24
    [14] - سورة آل عمران، الآية: 195
    [15] - سورة الشورى، الآية: 26
    [16] - عبد الكريم يونس الخطيب (ت: بعد 1390هـ)، التفسير القرآني للقرآن، نشر دار الفكر العربي – القاهرة، ج:13، ص:52
    [17] - الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، مرجع سابق، ج:25، ص:88
    [18] - سورة إبراهيم، الآية:22
    [19] - سورة غافر، الآية:60
    [20] - سورة الأعراف، الآية:194
    [21] - سورة الأحقاف، الآية:5
    [22] - سورة الأنفال، الآية:24
    [23] - سورة الشورى، الآية:47
    [24] - سورة آل عمران، الآيتان:171-172
    [25] - سورة الرعد، الآية:18
    [26] - سورة يوسف، الآيتين: 33 و 34
    [27] - سورة الأنبياء، الآية:76
    [28] - سورة الأنبياء، الآيتين: 83 و 84
    [29] - سورة الأنبياء، الآيتين: 87 و 88
    [30] - سورة القصص، الآية:50
    [31] - سورة إبراهيم، الآية:22
    [32] - سورة الأحقاف، الآية:5
    [33] - المنهاج الجديد للتربية الإسلامية، ص:9
    [34] - منهاج التربية الإسلامية، ص:9
    [35] - منار التربية الإسلامية، ص:22
    [36] - أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (ت: 606هـ)، مفاتيح الغيب، نشر دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة الثالثة - 1420هـ، ج:15، ص:472
    [37] - وفيه الحياة لأن الإيمان حياة القلب والكفر موته
    [38] - يقول الرازي: وإنما سمي القرآن بالحياة لأن القرآن سبب العلم، والعلم حياة
    [39] - سمي الجهاد حياة لأن وهن أحد الطرفين حياة للطرف الثاني، كما أن الجهاد سبب لحصول الشهادة وهي توجب الحياة الدائمة، بالإضافة إلى أن الجهاد قد يفضي إلى القتل، والقتل يوصل إلى الدار الآخرة، والدار الآخرة معدن الحياة. قال تعالى: ((وإن الدار الآخرة لهي الحيوان)).
    [40] - أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (ت: 774هـ)، تفسير القرآن العظيم، سامي بن محمد سلامة، نشر دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية: 1420هـ - 1999م، ج:4، ص:34
    [41] - محمد رشيد بن علي رضا (ت: 1354هـ)، تفسير المنار، مرجع سابق، ج:9، ص:525

    شارك المقال

    # مقالات متعلقة